إعداد : حنان الهزاع
تعد الثقافة المجال الرئيسي الذي تعمل من خلاله ومن أجله كل الفلسفات والتيارات، فمن خلالها يمكن تحقيق ما تصبوا إليه المجتمعات من أهداف، وما تنشد غرسه على أرض الواقع، ومن ثم فإنها تعكس وبصدق ما تدعو إليه هذه الفلسفات والتيارات من مبادئ وتوجهات. وبالرغم من تعدد وتنوع تعريفات الثقافة، إلا أنها ظاهرة بشرية وصناعية إنسانية فهي من إنتاج وحصيلة نضال الإنسان وكفاحه مع الظواهر المحيطة به ونتاج تفاعل مع المجتمع وتنظيماته ومؤسساته، وما تفرزه من تراكمات وخبرات يتم عن طريقها التواصل والتفاعل بين الأجيال والتفاعل في الحاضر والتطلع إلى المستقبل.
وفي عصرنا هذا –عصر ما بعد الحداثة- باتت التعددية الثقافية "العولمة" لا تنفصل عن الإنسانية، وهي الشرط الأول للحوار بين الحضارات، وعلى مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول، إذ تنطوي على بعد مزدوج، فهي أولاً إشارة إلى مختلف التعبيرات الثقافية، سواء القديمة (التراث) أو الحاضرة منها (الإبداع)، ويعد الفن باختلاف أنواعه من المجالات التي استطاعت التعددية الثقافية أن تقتحمها متزامنا ذلك مع الحداثة وما بعدها، وبصورة موازية، تمد التعددية الثقافية الجسور بين الشعوب المختلفة من خلال تعظيمها لفرص الإبداع الفني والتفاهم المتبادل فيما بينها، وهما خير ضمان لغنائم مشتركة، كما تشمل التعددية الثقافية حق الدول في أن تساند الإبداع الفني بحيث تضع التعددية الثقافية العالمية في متناول الجمهور.
ولعل ذلك يقودنا إلى مفهوم عولمة الثقافة وجعلها ثقافة عالمية موحدة ومن ثم العمل على امتزاج كل الثقافات المحلية ومحاولة التخفيف من حدتها، لتحل محلها ثقافة عالمية موحدة وهي بذلك تسعى إلى توعية المجتمعات بخصوص الثقافات والأيدلوجيات أحادية الرأي التي تعوق تقدم المجتمعات والانطلاق إلى ثقافة عالمية واحدة.
وهذا ما يتبناه بعض النقاد الفنيين بضرورة أن يكون الفن التشكيلي متوافقا مع طبيعة هذه التعددية الثقافية بحيث يعكس العمل الفني صورا حداثية من حيث اختيار الموضوعات وأساليب التنفيذ، وذلك تماشيا مع التغيرات الثقافية العالمية، وهم في ذات يرون بأن عدم مواكبة هذا التغير أنما هو تخلف وتأخر عن الأمم الأخرى، وهم في مواقفهم يؤكدون على الاتجاهات الفنية الحديثة والتي أفرزتها الحرب العالمية الثانية كالسريالية وكذلك الاتجاهات الحداثية التي ظهرت في القرن العشرين، مثل الواقعية المغالية "super realism" والمفاهمية وما فوق المفاهمية" post conceptualism" وغيرها، باعتبارها اتجاهات فنية تعكس روح العصر الحديث، عصر التكنولوجيا والتداخل الثقافي بين المجتمعات، وهي تعطي الفنان مطلق الحرية في إنتاجه الفني.
أما بالنسبة للمعارضين لمنهج الحداثة في الفن التشكيلي، فهم في طبيعة فكرهم ينبذون الحداثة والعولمة وتداخل الثقافات ويرون بضرورة تمسك الفنان بهويته المحلية والقومية وأن تكون أعماله الفنية تعكس انتماءه لثقافته العربية والإسلامية، لذلك ظهرت لنا قضية الجدل حول التنوع الثقافي داخل الثقافة العربية وهي قضية بات المساس بها يشكل نوعا من المغامرة غير المحسوبة لان فيه ما يخدش وحدة الثقافة العربية، وهم بذلك يفرضون عدد من القيود التي تحد من حرية الفنان.
ولذلك يمكن التفريق بين الحداثة والتجديد لشمولية الأولى وخصوصية الثاني، لأن التجديد أحد مظاهر الحداثة ،بمعنى أن الجديد « هو إنتاج المختلف المتغير والذي نجده في عصور مختلفة، لكنه لا يشير إلى الحداثة دائما » إن الاختلاف والتباين يحدد ماهية الجديد لتعبيره عن واقع مختلف متجدد، ولاستخدامه معايير تغاير الماضي ولا تنفيه أو تلغيه، أما الحداثة فإنها تتضمن الجدة وتتجاوزها في آن واحد، ولذلك فهي ترتبط «بالانـزياح المتسارع في المعارف وأنماط الإنتاج والعلاقات على نحو يستتبع صراعا مع المعتقدات ، ومع القيم التي تفرزها أنماط الإنتاج والعلاقات السائدة ».
كما وإنه من المفيد البحث في التراث المحلي والعربي والإسلامي والإفادة منه في التعبير الفني وخاصة لدى طلاب التعليم العام من خلال مجالات التربية الفنية ولكن في ذات الوقت لا يكون هناك انعزال بين الطالب وما حوله من تطورات عالمية بل لابد من دمج التراث بالحداثة والاستفادة من تعدد الثقافات دون تضييع لملامح هويتنا الخاصة بنا.
لوحة الحصاد لمحمد السليم من المملكة العربية السعودية ويظهر تأثير البيئة الصحراوية في أسلوبه الآفاقيه
أننا نعيش في عالم متشابك بفعل شبكات الاتصال التي تنقل إلينا العديد من الصور والإنتاج الفني العالمي والذي لا يمكن في أي حال من الأحوال إغفال وجوده في حياة المبدعين فلقد أصبح الفن لغة عالمية تشترك الشعوب في مفرداته ورموزه ولا يمكن عزل الإنسان عن مثل هذه المفاهيم، لذلك بات الفن متأرجحا بين الرؤية المحلية ومرئيات وسائل الاتصال المتعددة، بالرغم أنه عندما نرغب في البحث في أصول الفن التشكيلي فأننا ولابد من العودة إلى الجذور التاريخية في الغرب وهذا ما يجعل في ذات الوقت من الصعوبة إنكار اثر الفنون الغربية على الفنان العربي.
لوحة المدينة (1937م) لمحمود سعيد من مصر وتظهر الهوية المصرية في معالجة تشكيلية ابتكاريه
ولكن في ذات الوقت لا يعتبر الإنتاج الفني الذي يعكس التراث والانتماء متخلفا لعدم مواكبته للثقافات العالمية المعاصرة، فالتعبير الفني ما هو إلا إنتاج الفرد ليعبر عن ذاته ما بداخله من جمال يسمو بإنسانيته، ويضمن عمله رسالة معينة يوصلها لغيره لذلك فانه من الإجحاف بحق الفنان المحلي اتهامه بالتخلف والرجعية في حال لم يتوافق مع الفنون العالمية ولكن الفنان لعله بانتهاجه لأسلوب أداء فني مبتكر ومميز في تنفيذ موضوعات محلية ومعالجته للخامة والسطح بطريقة جديدة يكون متماشيا مع التطورات الفنية الحديثة التي أفرزتها التعددية الثقافية.
وهذا يقودنا إلى الثقافة المرئية التي تعكس هويتنا وتشكل رسالة للشعوب الأخرى التي نعكس فيها ثقافتنا الخاصة وتؤكد على انتماءنا لهويتنا والاعتداد بها، فالانتماء مفهوم نفسي اجتماعي، فلسفي، وهو نتاج العملية الجدلية التبادلية بين الفرد والمجتمع أو الجماعة التي يفضلها المنتمي، وباعتباره ذا طبيعة نفسية اجتماعية، فإن وجود المجتمع أو الجماعة هام جداً كعالم ينتمي إليه الفرد، حيث تكمن الحاجة إليه في التجمع والرغبة لدى الفرد بان يكون مرتبطاً أو يكون في حضور الآخرين.
ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أن الثقافة العربية والإسلامية قد أثرت في الفنون الأوروبية في القرون الوسطى في اقتباس الوحدات الزخرفية والخط العربي أمثال الفنان الإيطالي فيروكْيو Verrocchio, Andrea del، (1435-1488م) وكان يجمع بين فنون النحت والصياغة والتصوير وقد استخدم الخط العربي في تمثاله البرونزي (داوود) على هيئة أشرطة من خط النسخ المملوكي تزخرف حواف الثوب الذي يرتديه (داوود). وهذا يعني أن هناك ادوار تبادلية في تأثير الثقافات على الإنتاج الفني في العصور المختلفة.
تمثال (داوود) للفنان الايطالي فيروكيو 1473- 1475م مصنوع من البروز وقد نقشت عليه كلمات بالخط العربي
وإذا كان هناك من خطورة نتيجة لسيطرة التقنية و تعميم آلية العقل التجريدي المعاصر وإشاعة التعايش الفكري والفني مما يخلق ثقافة اغترابية نوعا ما وإنسانا معزولا، فان الخطورة تكون مضاعفة أكثر في الإبداع التشكيلي، لان كل هذا سيحول نتاج الحواس إلى الآلية والعقلانية التي تؤدي إلى تشويه عفوية الذات البشرية والفكر وتحويله إلى فكر استهلاكي، وتخلق نوعا من نضوب اللغة الفنية وتهميش الفن.
ولكن المشكلة الجوهرية تبقى في أن حاضرتنا المعاصرة لا تمتلك أساسا القوة الجذرية في مواجهة الغزو الفكري، لأنها ليست سوى مدن مستوردة للفكر والتقنية الغربية، ولذا فأنه من الضروري الوقوف قليلا ومعرفة كيف يمكن أن تتحول هذه التقنية إلى جزء من ثقافتنا ومفردات لغتنا التشكيلية. لكن الالتباس الذي يعيق تطور الفن المحلي و العربي الآن ويخلق جوهر أزمته هو ركود لغته الفنية بالنسبة للمشاهد، ولذا فان ديناميكية الفن لا يمكن أن توجد إلا في إثارته للأسئلة وهذا يدفعنا إلى التفكير بالفن التشكيلي العربي المعاصر من جديد مع الإشارة إلى الخطورة التي تواجهه والتي تكمن في أن هذا الفن سيفني ذاته كفن لأسباب ثلاثة: أما كونه فنا واقعيا فوتوغرافيا يخدعنا برؤية الواقع والطبيعة مرة ثانية في اللوحة، أو لأنه فنا استهلاكيا يلتزم بسوق العرض والطلب التجاري مبتعدا عن معالجة القيم الإنسانية والمعرفية العميقة وقلق الإنسان بسبب الخوف من انهيار حضارته، أو باعتباره فن لا يعالج أسئلته تعتمد على لغة الفن البصرية والتي تؤثر على البصر والبصيرة معاً.
ومن أجل أن يؤثر الفن التشكيلي العربي في الوعي الفكري والجمالي للفنان والمتلقي سيكون من الضروري التفكير بجوهر وماهية الفن باعتباره بحث قوامه وطبيعته اجتماعية فلسفية جمالية.
نشر الموضوع في مجلة الفنون- الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون - العدد 57 - رجب 1432هـ - يونيو 2011م