Hanan saud*
يقول جون دافيس
"جميعكم تضحكون علي لأني مختلف عنكم، وأنا أضحك عليكم لأنكم متشابهون"
كم هم مريحون أولئك المنظمون المثاليون، أنهم يجعلون من الحياة شيئاً سلساً يسير في رتابة مأمونة، لكن " التطوير" لا يحتاج إلا إلى القليل منهم. لأنه بحاجة ماسة لبعض الجنون والإنحراف عن المسارات المألوفة، فالتغيير لم يحدث في تاريخ البشرية إلا على يد أصحاب الشطحات الغريبة، ممن تجرؤوا على كسر الروتين ومخالفة القواعد، وعندما يقدر مثل هذا الجنون حق قدره، ويؤمن به فإنه سيتاح للمبدع أن يثبت صلاحية أفكاره وفاعليتها. فأينشتاين مثلاً لم يكن على قدر من التميز العقلي ليجتاز مراحل التعليم الأولى، كما لم تكن هيئته الشكلية مهذبة بما يكفي للإعجاب به، إلا انه قـُدر له أن يولد في مجتمع يؤمن كثيراً بأن ما يحدثه الشخص من تأثير هو الأهم ويصنع له قيمة بعيداً عن أي حيثيات أخرى.وعلى صعيد الفن التشكيلي وهو أكثر الفنون جنوناً، حيث لم تكن أعمال فناني الانطباعية شيئاً مقبولاً عندما عرضوا لوحاتهم محطمين كافة القيود الأكاديمية المقدسة، ليجعلوا من الضوء فقط أبجديتهم في التعبير الفني، فسمي معرضهم الأول الذي أقاموه عام 1863م بـ"صالون المرفوضين"، وهو الذي أعتبر فيما بعد أهم المنعطفات في تاريخ الفن الحديث، حيث كان وراء تأسيسه "مونيه" وزملاؤه "رينوار" و "بازيل" و"سيسلي"، ثم ما لبثوا بعدها أن تضامن معهم الكثير من المفكرين الذين آمنوا بمشروعية ذلك التغيير، فظهرت" الانطباعية" كمدرسة فنية نُظرت لها خصائصها وتقنياتها التي تبنتها أكاديميات الفنون فيما بعد.
كما نقيس على ذلك الكثير من الانقلابات الفكرية التشكيلية والتي توالت منذ تلك الفترة، ومنها ما قام به "مارسيل دوشامب" 1919م عندما تعدى على قدسية "الموناليزا" فأضاف لوجهها شاربا وذقنا صغيرة، ليعطي فلسفته الخاصة تجاه مفهوم الرجولة والأنوثة بطرح جريء يصدم المشاهد، فصنف هذا العبث بالحركة "الدادية" والتي تسخر من الواقع وتجعل الفن أداة للتعبير عما خلفته يد الدمار البشري في الحرب العالمية، وهي التي وضعت بذور "السريالية" فيما بعد في الفن والأدب. وأعطت للبعد الإنساني أهميته في الإنتاج التشكيلي، كما كانت "الدادية" في زيورخ جامعة لكل التيارات الفنية الطليعية والتيارات المعاصرة كـ"التكعيبية" و"التعبيرية" و"الباوهاوس" و "التجريدية"، آخذين في الاعتبار أن تطورات الحركة التشكيلية في الغرب، إنما هي نتيجة حتمية لما مرت به البشرية هناك من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية متنوعة، لذا فالفكر الفني والأدبي جاء متسقا في كل فترة بحسب الأحداث في حينها، ولذا فأنه علينا أن نميز في فنونا العربية بين المستورد والمنسوخ بلا أي قيمة، وبين الأعمال المبدعة اللامألوفة والتي تجيء منسجمة مع معطيات الزمان و المكان بفرادة وخصوصية تميزها عن غيرها.
وإن رغبنا في الحصول على الإبداع في أقصى مداه وأجمل تجلياته، فما علينا سوى النظر إلى ما يقدمه المبدعون لدينا من زوايا جديدة مغايرة، وأن لا نقابل كل ما هو غريب بالاستنكار، وأن من الخطأ أن يبقى الحال كما هو عليه في الفن التشكيلي، وأن نعيد رؤية الأمور مرة أخرى، فليس بالضرورة أن يكون كل ظل أسود، وأن في الكون ما قد يكون "ظلٌ أبيض".
*مجلة الفنون الصادرة من الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون العدد 51
0 التعليقات:
إرسال تعليق